مناجاة

    يا ولدي، يا عمادي، يا عمادًا للوطن!

   ها قد انقضى سبعة شهور من تاريخ استشهادك، سبعة شهور انصرمت، وكأنّها سبعة أيام، لا بل سبع ساعات وسبع دقائق! إنّك أمام ناظريّ الذّارفين، مسجّى في نعشك يا حبيب الروح! إنّك أمام ناظريّ محمولًا على أكفّ رفاقك وأصحابك الأوفياء، وأصوات هؤلاء لا يزال يدوّي في مسمعي، يندبونك، يعدّدون مناقبك ومحامدك!

   لا أنسى ولن أنسى، ما حييت، الجماهير الحاشدة التي أمّت مسقط رأسك، رأس المتن، لتحضر مأتمك وتواكب نعشك الغالي، المكلّل بالرياحين، إلى حيث واروك؛ وا لوعة قلبي! في جدث تحاوطه أشجار الصنوبر، حيث لا يُسمع سوى حفيف أوراقه البرّية ، كلّما هبّت نسمات الصَّبا، التي يعطّرها أريج القصعين والوزّال!

   إنّك أمام ناظريَّ في روحاتك وغدواتك، حاملًا قلمًا وقرطاسًا، وكتابًا، مرّة، ومتنكّبًا بندقيّة مرّة أخرى، مفترَّ الثغر في الحالين، عن ابتسامة تنمّ عن صفاء في العقل والسريرة، لا تفارق مخيّلتي!

   نعم يا ولدي الراحل إلى عالم الخلد، عالم اللاعودة، ويا حشيشة كبدي! لن أنسى يوم وداعك الأخير، يوم الثلاثاء في الثامن والعشرين من تشرين الأول، يوم استأذنت أباك واستأذنتني، لليوم الثالث على التوالي للذهاب إلى القتال، في القنطاري، حيث قدَّمت دمك الطاهر للوطن، فاستشهدت في ساحة الشرف، شرف الدفاع عن وطن مهدّد بالانهيار، أردته وطنًا حرًّا يتساوى فيه جميع ساكنيه، ويأمن فيه كلّ اللاجئين إليه، من الفلسطينيّين المظلومين، تحدوك روح إنسانيّة عالية، وقوميّة متجسّدة فيك وفي أمثالك من الشرفاء!

   "لا تكوني أنانيّة يا أمّي! إذا متّ فإخوتي يكونون لك سلوى وعزاء! دعيني أقاتل أولئك الحاقدين، أولئك المنباعين للشيطان! ها هم قد اقتربوا من منازلنا، وأوشكوا أن يحتلّوا البنك المركزيّ. اتركيني أقاتل أعداء الشعب ومستثمريه الجشعين"!

   نعم يا عماد الحبيب! يا زين الشباب! يا فتى المروءة! إنّ قولك هذا لن أنساه؛ لم أصدّك عن قصدك فذهبت، وقاتلت كالأبطال وطهّرت الحيّ، مع رفاقك الميامين، من غزاته الأوغاد أعداء البشر، وفي خلال أوبتك، مكلّلًا بغار النصر، اغتالتك ورفيقيك البطلين "ذياب ومحمّد"، رصاصات قنّاصين جبناء لؤماء، مختبئين خلف نوافذ أوكارهم في "الهوليداي إن"!

   يا عماد الخالد! الثاوي في تربة غالية بين غابات الصنوبر، إنّ استشهادك ورفيقيك، لم يذهب هدرًا ولن يذهب سدىً: إنّ سائر الرفاق سمعوا نصائحك قبل أن تلفظ نفسك الأخير وقولك لهم وهم ينقلونك مضرّجًا بدمك من ساحة المعركة إلى المستشفى: "أنا غير وجل، أنا لن أموت، كمّلوا المسيرة، الحياة للمناضلين النبلاء"!

   المسيرة يكملها الرفاق يا بنيَّ الحبيب الراحل، ويا ليتك تطلّ علينا من نافذة خلدك، لترى حيَّ القنطاري وحيّ الفنادق، وتُسرّ برؤيتهما مطهّرين من دنس من قاتلتهم، مع أحياء أخرى من المدينة! لترفرف روحك الذكيّة فوق هذه الأحياء المحرّرة كي ترتاح في مثواها العلويّ، عند باريها، ممّا صنعه رفاقك الأبطال الذين سبقتهم على درب الاستشهاد! وهنيئًا لها في دنيا الخلود!

   يا نور عيني، بلسم لجروحي ووسيلة لتحمّل العبء الذي ألقيته على كاهل أمّك الثكلى وكاهل والدك الفخور باستشهادك في سبيل مثلك العليا الإنسانيّة والقوميّة والوطنيّة!

   الحياة الأبديّة لك يا بنيَّ ولأمثالك من الشجعان، الذين انتظموا، والذين سوف ينتظمون في قافلة الشهداء! والموت لأعداء الحرّيّة والتغيير، في سبيل لبنان الشعب الموحّد، لا لبنان المزرعة، لبنان العربيّ الحرّ المنطلق على دنيا العرب والمنفتح على الشعوب، كلّ الشعوب، غير العنصريّة وغير الطائفيّة، العائشة فوق هذا الكوكب الصغير السارح في فضاء لا متناهٍ!

                                                والدة عماد نويهض

                                             (28 أيار عام 1976)